الأحد، 10 أغسطس 2008

التنافس الروسي الأميركي في جورجيا.. إعادة رسم الخريطة

التنافس الروسي الأميركي في جورجيا.. إعادة رسم الخريطة

حينما خرجت كبريات الصحف الروسية بعناوين "الحرب الباردة تعود من جديد" و"القوات الروسية في جورجيا على خط النار" كان ذلك ترجمة للقلق الروسي تجاه الحضور الأميركي المتنامي في جورجيا، الذي أكدته زيارة وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد إلى العاصمة الجورجية تبليسي في الخامس من ديسمبر/ كانون الأول الجاري. وبين قلق روسي وتحالف أميركي جورجي تشكلت مواقف الأطراف الثلاثة. وفي ما يلي محاولة لقراءة موقف كل طرف.
اظلت جورجيا تحت الهيمنة الروسية 190 عاما (من 1801 إلى 1991)، ورغم استقلالها الرسمي عن الاتحاد السوفياتي في 9 أبريل/ نيسان 1991 لا يبدو أنها نعمت بهذا الاستقلال بعد، فمشاريع الانفصال العرقية والدينية يدعمها الوجود العسكري الروسي في أهم المدن، كما هو مبين في الخريطة.
وإضافة إلى القواعد الروسية السابقة، هناك قوات أجنبية على أراضي جورجيا تحت مسمى قوات لحفظ السلام أتت من ثلاثة مصادر، الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي وكومنولث الدول المستقلة.
وتعمل هذه القوات للفصل بين الأطراف آلتي تحاربت خلال عقد التسعينيات وحماية اللاجئين في أوسيتيا الجنوبية ولمراقبة وقف إطلاق النار في أبخازيا.
وثمة نوعان من القوى هيمنتا على بناء الدولة الجورجية خلال العقد الأخير، وهما قوى الطرد المركزية ممثلة في انفصال الأقاليم تحت شعارات عرقية أو دينية أو حزبية، وتتجسد هذه المشاريع لدى الأقلية الأبخازية والأوسيتية والأدجارية والأرمنية والأذرية وحركة المعارضة الزيادية (نسبة إلى زياد جامسخورديا الرئيس الجورجي السابق).
وتعد القواعد الروسية إحدى قوى الطرد التي تشجع الأقاليم على الانفصال، فقاعدة أخالاكالاكي تقع بأهم مدن الأقلية الأرمينية، وقاعدة باتومي في أهم مدن الأقلية الأدجارية، كما كانت قاعدة جوداتي كذلك في أبخازيا، وهناك قوات روسية تحت أسماء مختلفة في منطقة الانفصال الأوسيتي. وإذا ما تحققت المشاريع الانفصالية تتحول جورجيا إلى إمارات صغيرة كالتي عاشت في العصور الوسطى.
”تهدف دول الغرب إلى مساعدة جورجيا واستغلالها في آن واحد؛ المساعدة في التخلص من مشاريع الانفصال والنفوذ الروسي، والاستغلال بإقامة قواعد عسكرية لخدمة أهداف جيوإستراتيجية لحلف الناتو”
والقوى الثانية هي قوى الجذب المتمثلة في خصوصية الموقع الجغرافي المتمتع بتقاطع الثروات ونقلها وأهمية المكان الإستراتيجية في خاصرة آسيا ومحور اتصالها بالغرب وقربها من قلب العالم الإسلامي، وهو ما يضفي على جورجيا إغراء بالجذب من قبل دول الجوار مثل روسيا وتركيا وإيران والقوى العظمى البعيدة كالولايات المتحدة ودول غرب أوروبا.
تهدف دول الغرب إلى مساعدة جورجيا واستغلالها في آن واحد؛ المساعدة في التخلص من مشاريع الانفصال والنفوذ الروسي، والاستغلال بإقامة قواعد عسكرية لخدمة أهداف جيوإستراتيجية لحلف الناتو.
ومن جانبها تقبل القيادة الجورجية الجديدة بهذا الوضع كمخطط مرحلي أملا في أن تتخطاه لتتغلب بعده على قوى الطرد بمناطق الانفصال لتصل إلى توحيد جورجيا تحت قيادة تبليسي.
أما الولايات المتحدة فقد بات جليا أن جرأتها في خلق حضور عسكري على الحدود الروسية، والذي بدأ عقب أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، ترمي إلى مقصدين:
الأول: خلق نموذج جديد في تلك المنطقة الحساسة من العالم أقل تكلفة وأكثر نجاحا من النموذج العراقي، مع تأمين تصدير النفط القز ويني بشركات أميركية وتضييع الفرصة على البديل الروسي باكو-نوفارايسيسك-أليكساندروبولس الأسرع تنفيذا والأقل كلفة، كما سيتاح لها تشجيع مشروع التراسيسا لضمان تدفق أسرع للسلع من الغرب إلى الشرق.
والثاني: إكمال المشروع الطموح بإمبراطورية القواعد العسكرية بديلا عن المشروع الكولونيا لي وفي الوقت نفسه الضغط على روسيا من الجبهة الجنوبية بعد أن أكمل الناتو الضغط عليها من الجبهة الغربية في اجتماع براغ في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 الذي أقر ضم رومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وسلوفينيا إضافة إلى دول البلطيق الثلاث. والهدف تفويت الفرصة على روسيا من خلق عالم ثنائي القطب وحصرها في مساحة جغرافية لم تعرفها منذ القرن الثامن عشر، فضلا عن كبح جماح قوى إقليمية متنامبة مثل الصين وإيران، إضافة إلى تقويض البنى التحتية للمشروعات الإسلامية الحالمة بالإمساك بزمام السلطة في فضاء جغرافي أفلست فيه الأيديولوجية المادية.
وقد أرسلت الولايات المتحدة جنودها لأول مرة إلى جورجيا في نهاية فبراير/ شباط 2002 تحت عنوان تدريب القوات الجورجية لمحاربة الإرهابيين الفارين من أفغانستان أو من المقاتلين الشيشان الذين تسللوا إلى جورجيا من وادي بنكيسي على الحدود الروسية. والرقم المعلن للقوات الأميركية في جورجيا يتراوح بين 500 و1000 خبير عسكري.
”يبدو التنافس بين الجانبين في جورجيا أشبه بسباق في مضمار تجري فيه روسيا في سباق حواجز بينما تجري الولايات المتحدة في سباق حر”
بدهي أن المقارنة بين طموحات روسيا والولايات المتحدة في جورجيا غير متكافئة، فاقتصاديا تنفق الولايات المتحدة على مشروعاتها العسكرية سبعة أمثال ما تنفقه روسيا، وإستراتيجيا تغلق روسيا قواعدها العسكرية في فيتنام وجورجيا وكوبا بينما تبني الولايات المتحدة قواعد جديدة في جنوب شرق آسيا وأفغانستان وآسيا الوسطى ودول الخليج والعراق.
وأيديولوجيا تعيش الولايات المتحدة أجواء دولة محاربة بينما تسرح روسيا ثلث عدد الجيش لتخفيض الميزانية. وفي الوقت الذي تقف فيه روسيا وحدها مرفوضة من كثير من دول الجوار (عقدة الروسوفوبيا) تلقى الولايات المتحدة ترحيبا من هذه الدول ودعما من منظمات دولية تصبغ على طموحاتها شرعية قانونية كمساندة حلف الناتو ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي والأمم المتحدة.
وعلى المستوى الداخلي لا تعرقل القضايا التنموية في الولايات المتحدة مسيرة سياستها الخارجية بينما تجاهد روسيا ليل نهار لتفكيك مراكز القوى، ومحاربة تمرد مناطق الأطراف على المركز، وتفشي الفساد الحكومي، وانتشار الجريمة، والانكماش الديموغرافي، وتدهور الرعاية الصحية والتعليم، بل وتشوه صورتها عالميا كدولة نامية تزور انتخاباتها البرلمانية.
وفي مجمل الأمر يبدو التنافس بين الجانبين في جورجيا أشبه بسباق في مضمار تجري فيه روسيا في سباق حواجز بينما تجري الولايات المتحدة في سباق حر.
وبالنسبة لروسيا لا يوجد سند قانوني تعتمد عليه موسكو للدفاع عن وجود قواتها في جورجيا، فالقواعد العسكرية من ميراث الاتحاد السوفياتي. والأمر مختلف عن وجودها في أرمينيا المستند على اتفاقية مارس/ آذار 1995 الموقعة بين الطرفين لإبقاء القوات الروسية على الأراضي الأرمينية لحماية حدودها مع تركيا، ويسري مفعول هذه الاتفاقية حتى العام 2020. وإذا تفككت القواعد العسكرية في جورجيا ستبقى القوات الروسية في أرمينيا منعزلة لعدم وجود اتصال جغرافي بين الأخيرة وروسيا.
وتستند روسيا على نقطة قانونية غير مقنعة لكثير من الأطراف وخاصة لحكومتي جورجيا والولايات المتحدة، وهي أن الوجود الروسي في جورجيا ضمن اتفاقية الأمن الجماعي لدول الكومنولث.
وهنا لا ينسى الباحثون أن جورجيا انضمت إلى تحالف الكومنولث تحت ضغط روسي، فحينما عصفت الحرب الأهلية بجورجيا في مطلع التسعينيات تمكنت قوات المعارضة التابعة للرئيس المخلوع زياد جامسخورديا من حصار مدينة بوتى والتهديد بإسقاط حكومة تبليسي برئاسة شيفرنادزه، ووقتها عرضت روسيا على تبليسي القيام بعملية عسكرية توقف هذا التهديد مقابل انضمام جورجيا إلى الكومنولث والتوقيع على اتفاقية الأمن الجماعي، وحدثت المقايضة في نهاية العام 1993.
وينبع ضعف الموقف الروسي من موافقة رئيسها السابق بوريس يلتسين في نوفمبر/ تشرين الثاني 1999 في اجتماع منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في إسطنبول على سحب الأسلحة التقليدية من شرق أوروبا، وبالتحديد تفكيك قاعدتين روسيتين في جورجيا قبل نهاية العام 2001 والبدء في التفاوض حول إغلاق القاعدتين الأخيرتين.
مع قيام روسيا بتفكيك قاعدتين في تبليسي وجاوداتي -مقابل تسهيلات اقتصادية لروسيا في السوق الأوربية والأميركية ومنحها مساعدات مالية لدعم اقتصاد السوق والديمقراطية- لم يعد أمام روسيا إلا أن تكمل ما بدأته.
وينبع ضعف حجة روسيا من إرجائها تفكيك القاعدتين الباقيتين إلى نهاية العام 2014 وهو ما لا يعني إلا أن روسيا تريد كسبا للوقت لإبقاء القاعدتين المؤلفتين من 8000 عسكري و153 دبابة و241 مركبة مدرعة و140 مدفعا.
وربما تستمر المماطلة أملا بأن تتغير توجهات الإدارة الأميركية المغرمة حاليا بالهيمنة إلى إدارة أخرى تنشغل بقضايا داخلية.
”ما يحدث في القوقاز أكبر من مناورة سياسية لإثبات الهيمنة الأميركية أمام الترنح الروسي، إن هي إلا بداية لتعديل ثوابت الجغرافيا السياسية في المنطقة”وبواقعية نادرة يقول سيرجيه كاراجانوف الخبير الإستراتيجي الروسي في حوار مع صحيفة نيزافيسميا جازيتا "يجب ألا نرى التعاون العسكري الجورجي- الأميركي دليل اتهام لعمالة الحكومة الجورجية لواشنطن، الأمر يكمن ببساطة في أن واشنطن تساعدهم بينما موسكو تخوفهم، إذا أردنا أن نؤثر في هذا البلد فلا بد أن نغير من سياستنا تجاهه. لقد آن الأوان لأن نستبدل سياسة الجلد بسياسة ناضجة تسقط السوط وتمد يد العون، حينها فقط ستكون موسكو أول قبلة لأي قائد جورجي مهما كانت توجهاته".
وإذا سمحنا لأنفسنا بتخيل سيناريو مسترشد بالمعطيات الآنية سنجد أن جورجيا يمكنها أن تستفيد كثيرا لو تم ترتيب التعاون العسكري مع الولايات المتحدة أو الناتو بحيث تشغل القوات "الصديقة" إقليم جافاخيتي ذي الأغلبية الأرمينية وهي نفس المنطقة التي سيمر بها خط الأنابيب باكو-جيهان.
فهذه المنطقة شهدت اضطرابات من قبل الأقلية الأرمينية في خريف 1998 تزامنا مع بدء العمل في هذا المشروع (إضرارا بأذربيجان المعادية لأرمينيا)، كما أن انتشار الأسلحة بين سكان الإقليم يقوي موقفهم نحو الانفصال. وهنا قد تستفيد تبليسي من القضاء على هذه التمردات بمساعدة أميركية (النموذج الفلبيني).
وفي المرحلة الانتقالية بين خروج القوات الروسية وزرع قوات أميركية يمكن أن تقوم واشنطن بنشر قطع بحرية قبالة السواحل الجورجية وبصفة خاصة أمام مينائي بوتي وسوبسا الحيويين.
وقد كشفت مصادر بحثية روسية مؤخرا عن وجود كتيبة بحرية جورجية في قاعدة "كوماندوز" في ميناء بوتي تتلقى تدريبات منتظمة من قبل خبراء من البنتاغون. ويحصل الضباط الجورجيون في القواعد التي يعمل بها خبراء البنتاغون على رواتب تزيد بـ 3.5 مرات قدر رواتبهم من الحكومة الجورجية.
إضافة إلى بوتي يوجد الخبراء الأميركيون في ثلاثة مواقع أخرى شرق وغرب العاصمة تبليسي.
ويمكننا أن نستبعد وقوع مواجهة روسية-أميركية في جورجيا بل الأكثر ترجيحا أن القوات الأميركية ستتحاشى شمال جورجيا الملامسة للحدود الروسية وهو ما يعني استمرار تجمد الوضع في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا مع بقاء قوات حفظ السلام بها لأجل غير مسمى، وهو ما يمكن أن يتم بطريقة متعمدة ترضي الغرور الروسي بالوجود المقنع (قوات حفظ سلام وخبراء عسكريين واقتصاديين) في شمال الأراضي الجورجية. وبالمضي مع هذا السيناريو قد يتحقق خروج القوات الروسية من جورجيا، غير أن ذلك لن يعني بالضرورة وصول جورجيا إلى السلام قريبا.
ستظل النزاعات العرقية جاهزة لأن تؤججها قوى متعاونة مع روسيا أو طامعة في السلطة. وقد لا يغري إقليم أدجاريا -ذي الأغلبية المسلمة- الولايات المتحدة بالسعي لنشر قوات فيه، وتكفيها بقية الأراضي الجورجية بأغلبية سكانها المسيحيين.
وفي النهاية فإن الأمر أعقد مما أسمته الصحف الروسية حربا باردة، فما يحدث في القوقاز أكبر من مناورة سياسية لإثبات الهيمنة الأميركية أمام الترنح الروسي، إن هي إلا بداية لتعديل ثوابت الجغرافيا السياسية في المنطقة.ــــــــــــــــــ* باحث مصري خبير في الشؤون الروسية

0 التعليقات: