سياسة بوتين واستراتيجيته على منعطف حاد يتولاه ميدفيديف
فيودور لوكيانوف الحياة - 17/09/08//
يمكن حمل الاعتراف باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية على انعطاف في نهج السياسة الروسية الخارجية. ولاحظ مراقبون كثر أن سلوك موسكو يناقض المواقف التي صاغها برنامج السياسة الخارجية الذي كان صادق عليه الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف في 12 تموز (يوليو) 2008. والوثيقة التي اعتمدت، واحتفل بها، عاشت شهراً ونصف الشهر لا غير. وهي على وشك أن تعدل بصورة جوهرية. وهذا التعديل يطاول طريقة النظر الى الشؤون الدولية، والى معالجتها معاً.
وتغيرت تغيراً مدهشاً نبرة صوت الرئيس الروسي. فنتيجة انخراطه في أزمة عسكرية – سياسية، أخذ يقلد مرشده فلاديمير بوتين. فيقول مثلاً: «السياسيون البشعون» بجورجيا. ولكن تصريحاته، عموماً، تختلف نوعياً عن تلك التي كان يدلي بها الرئيس السابق. فهو يزعم أن أفعال المسؤولين الروس وحدها تصدر عن حسابات باردة، وأن همهم مساعدة الناس الذين تعرضوا للكارثة، ولا دوافع أخرى تحدوهم، ولا يخيفهم شيء حتى نشوء «حرب باردة». وأما الشركاء الغربيون فهم «إذا اختاروا أساليب المواجهة، عليهم أن يعرفوا أننا اختبرنا ظروفاً متنوعة، وفي إمكاننا ان نعيش هكذا». ويضيف ميدفيديف ان روسيا تراقب بانتباه مواقف شركائها الغربيين، ولكن جوهر الأمر هو أن أحدنا يمكن أن يقول للآخر «الى اللقاء»، وهذا ليس مأساة، وأما «مجموعة الثماني» فليس في امكانها، عملياً، أن تكون فاعلة من دون روسيا، لذلك لا خشية من استبعادها، وإذا ما رغب الشركاء الغربيون في ذلك، فإننا «لا نحمل الأمر على مأساة، ولا نتوقع تعقيدات جراء قطع العلاقات».
ولعل الأقوى تعبيراً أجوبته في بعض الحوارات. فحين يسأل، مثلاً، عمَّ يريد قوله على وجه التحديد، يجيب: «فقط ما قلته». وإذا سئل عن رد المسؤولين الروس عن قلق الجيران الأقرب لروسيا، أجاب: «لن نرد على أي قلق أو خوف تظهره جهة أو طرف».
وأجوبة ميدفيديف تختلف اليوم عن أجوبة بوتين الاعتيادية، وعن أجوبته هو قبل الحوادث، فهو لا يبدي رغبة في شرح المسألة التي يتكلم فيها، أو في اقناع أحد. والعبارات المتماسكة الصادرة عنه تخلق انطباعاً بأن لا جدوى من توضيح القول، ولا ضرورة تدعو الى الشرح. فمن له أذن فليسمع.
والفرق بين الرئيسين يظهر بوضوح في المقارنة بين أقوال ميدفيديف الى محطات التلفزة الأجنبية، وأقوال بوتين في المقابلة الطويلة والوحيدة التي أجرتها معه محطة CNN. فهذا يلجأ في أدواره التمثيلية الى استخدام المجازات في التعبير، ويظهر رغبة حادة في أن يسمع الحاضرون ما يقول، وفي شرح ما لا يعرفونه أو يفهمونه. ومن الأمثلة على ذلك شرحه الطويل والمرهق لتاريخ المنازعات على أرض جورجيا منذ القرن السابع عشر، وانتقاد Fox News على تحاملها.
ويمكن القول ان نموذج بوتين أدهش المحاورين الغربيين بذاكرته القوية، ورد فعله السريع، وبمعرفته الجيدة بالموضوع الذي يتحدث فيه. ويتعمد بوتين الصدمة في سبيل فتح ثغرة جدار في اللامبالاة المهذبة بحججه وبراهينه. ومن الأمثلة على ذلك خطابه في مؤتمر ميونيخ. فالقفاز الذي رماه لم يتناوله مجيب، ولم يرغب أحد في مناقشة تتناول المسائل الملحة والموجعة. وحمل المستمعون حملته محلها بطريقة نظر المجتمع اللائق الى شخص سيء التربية، طائش وغير متزن وغريب الأطوار.
ولا يقتصر الفرق بين الرئيسين على صفات كليهما الشخصية. ففلاديمير بوتين أنهى ولايته بنبرة عالية ضد الغرب. وهذا لم يكن هدفاً متعمداً. فمنذ البدء طمح بوتين الى انخراط روسيا في النظام العالمي، اقتصادياً وسياسياً. ولكن شروط الانضمام وظروفه تغيرت. والحاجات والمطالب تعاظمت وازدادت. وجلي أن نهج السياسة الروسية افتقر الى اللباقة والمتانة.
ولكن الكرملين، في المجال الاستراتيجي، لم يمتنع من المشاركة في «لعبة الأمم». فمناقشة قيم الديموقراطية ونماذجها انتشرت واتسعت، وأقبل الناس عليها وتوسل بوتين المناقشة هذه الى الحماية من «وباء الثورة البرتقالية» في أوكرانيا، وسعياً في اثبات الحق في انتهاج طريق «خاص» للوصول الى بناء مجتمع عصري حديث.
وفي الأيام الأولى لحوادث جورجيا وأظبت موسكو على تقليد سيناريو كوسوفو. وتعليل أسباب تدخل الجيش، وطريقة وصف الوضع، والخطوات المقترحة، بعثت إجراءات 1999، وتدابير الغرب في سبيل سلخ جزء من الأراضي الصربية. ويبدو أن الكرملين كان يأمل من الولايات المتحدة وأوروبا تفهمهما خطوته ومنطقها الذاتي. غير أن هذا لم يحصل. ولم يصدق أحد روسيا. وصدم دعم المجتمع الدولي ميخائيل ساكاشفيلي المجتمع الروسي، والطبقة السياسية الروسية. واتضح أن انتهاج طريقة كوسوفو (أي اتخاذ قرار في مجلس الأمن الدولي يمنح السيادة للأراضي المتنازعة والإقرار بعدم جدوى إجراء مفاوضات، والاعتراف بالاستقلال) لن يمر، ولن يقبل به أحد، على رغم الشبه بالحال اليوغوسلافية.
وإذ ذاك حصل التحول والانعطاف المهمان: فالرغبة في اختراق ديبلوماسي حل محلها العمل المنفرد، والاعتماد على النفس، وترك انتظار الاتفاق أو التنسيق مع الأطراف الأخرى. وذهب ديميتري ميدفيديف الى ان هذا القرار نهج مستمر، ولا يتعلق بالظروف السائدة حالياً، بل ينبغي اعتباره نموذجاً سياسياً جديداً. وهذا يعني ان «الشراكة الاستراتيجية» التي تواتر طلبها في الـ 15 سنة الأخيرة ألغيت. والأولوية انما هي للاستراتيجية المنفردة أو المستقلة. ولم تعد تطرح مسألة التكامل، بينما برز هدف أساسي هو تحصين مجال النفوذ الروسي، والسيطرة على المواقع للقيام بدور «القطب المستقل» في عالم متعدد القطب. وكل ذلك يجهره ميدفيديف في المبدأ الخامس من مبادئ السياسة الخارجية في شأن المناطق ذات «الأهمية المميزة».
ومعنى هذا أن السياسة الروسية لم يعد الغرب أولويتها. وهي كفت عن النظر الى الإجراءات من خلال تأثيرها في العلاقات بأوروبا والولايات المتحدة. وهذا النهج يطوي سياسة بوتين.
عن «روسيا في غلوبالنوي بوليتيكي» الروسية، 4/9/2008
0 التعليقات:
إرسال تعليق