الخميس، 10 سبتمبر 2009

أخبار شركيسيا: أديغة ستار: حرب الابادة والتهجير التي واجهتها الأمّة الشركسية


التالي ما قام بنشره منتدى التّاريخ الشّركسي لموقع أديغة ستار الألكتروني حول موضوع حرب الابادة والتهجير التي واجهتها الأمّة الشركسية عندما احتلت القوات الروسية شركيسيا في القرن التّاسع عشر

إحسان عبد الحميد خُن


يقول أحد الضباط الروس في كتابه (نبذة عن احتلال القوقاز) مبرراً أعمال الحكومة القيصرية: » لم نستطع التوقف عما بدأناه في احتلال القوقاز. لأن الشراكسة لم يودوا الخضوع لنا. وكان يجب القضاء على نصف الشراكسة لكي يتوقف النصف الآخر عن الحرب ».
لقد تقلص عدد الشيشان في الحرب فقط ما بين عامي 1847 و 1850 إلى النصف أي إلى 400 ألف، ومع انتهاء عام 1860 انخفض عددهم إلى الربع . أما الشابسوغ فقط انخفض عددهم من 700 ألف نسمة في بداية الحرب عام 1779 إلى 150 ألفاً عام 1831 . وفي هذا يقول العالم والسياسي الإنكليزي جيمس بيل في كتابه (جورنال لاقامة في شركسيا) » تتغلب هاتان المنطقتان شابسوغ وناتخواخ منذ عشرات السنين على قوات أوسع وأظلم وأقل أمانة إمبراطورية في أوروبا التي عدا ذلك تمتلك الفنون الحربية التي وصلت إليها أوروبا الحديثة « ومن جهة أخرى لا تتساوى التضحية عند الطرفين . إن الرؤساء وزهرة البلاد هم الذين يقعون في هذه المناطق تحت ضربات الحديد الروسي والرصاصات الروسية . بينما الروس بإمكانهم أن يرسلوا ألوفاً من البولونيين الذين يريدون التخلص منهم أو مواطنيهم العبيد الذين لايعتبرونهم إلا آلة حرب « . وعلى الرغم من الانتصار الذي حققه الروس في نهاية الحرب، إلا أن الباحثين يقدرون عدد الجنود الروس الذين سقطوا في معارك القوقاز بحوالي 1.6 مليون .
ومع انهيار الخطوط والدفاعات الشركسية بدأت حرب الإبادة التي قادها كل من الجنرالات افريين وغايمان وشاتيلوف وميرسكي وغيرهم الكثير . وكان هناك الآلاف من القرى والبلدات الشركسية التي أبيدت وأحرقت . فعلى سبيل المثال عندما تقدمت إحدى القوات الروسية المؤلفة من 14000 جندي . لم تكن القوات المدافعة في تلك المنطقة تزيد على سبعمائة مقاتل، وكان يتزعم هذه القوة »منصور بك« الـذي أبى أن يتزحـزح أو ينسحب إلى مواقع جديدة صائحاً في جنوده » لن نترك بلادنا، وإذا لم تجئنا النجدة، فسوف نقطع رؤوس نسائنا وأطفالنا، ونحرق بيوتنا وممتلكاتنا، ثم ننسحب إلى الصخور العالية وندافع عن أنفسنا حتى يقتل آخر رجل منا !».

وبعد أن دمر الروس القرية كتب أحد الشعراء » ... لقد ذبحوا الأطفال كأنهم نعاج ، وقتلوا الشيوخ كأنهم شباب ، واستباحوا النساء كأنهن بغايـا . لم يبق في القرية حجر على حجر، أو جذع على شجر، أو طير على غصن ، أو طفل على ذراع ! ... الموت يحصد بمنجله الرؤوس، والمرض ينتشر في الجو كالضباب والوباء الفتاك يطل برأسه الأسود على القرى المقوضة، وينعق على خرائبها كالغراب « .
وفي إحدى القرى كان عدد الشراكسة المدافعين حوالي 70 شخصاً ، وكانوا مسلحين بأسلحة تقليدية وبنادق عادية ، وبعد مقاومة عنيفة لم ينج من هذه المعركة سوى طفل صغير، لم يبق له إلا أن يلحق بالقوة التي دمرت قريته وقتلت أباه وأمه، ويصف أحد الضباط الروس هذا المنظر المؤلم قائلاً :» خلف القوة مشى ولد رث الثياب حافي القدمين مطرقاً، يحدق في الطريق المتربة ، وبعد أن قطعت العربة الطريق الذي يتلوى كالأفعى صاعداً إلى قمة الجبل توقف الولد وانتظر حتى ابتعدت القوة قليلاً، ثم استدار وألقى نظرة مفعمة باليتم إلى القرية التي ترقد في الأسفل، كان الطفل يهجر إلى الأبد مسقط رأسه، هذا الطفل الشركسي الذي فتح عينيه على العاطفة والجمال ، صدمته الحياة بقسوة ووحشية باقتلاع جذور عائلته ، وبينما كانت عيناه جامدتين على قريته الصغيرة ، عادت إلى مخيلته الأهوال والمصائب التي حلت بها وكيف قتل الجنود أباه وأمه ، وفكر بأنه لم يبق له أحد يناديه يا زكريا ، تنهد بعمق ومسح بظهر كفه دموعه ، ثم انطلق بسرعة ليلحق بالقوة . كان موقناً بأنه أصبح يتيماً يتماً كاملاً ، ولا يعرف شيئاً عما يخبئه له الغد « .
مع حرب الإبادة ، وانتشار الأمراض والأوبئة فقد الشركس الأمل في الحياة والبقاء . وقد تم اقتلاع وإبعاد معظمهم إلى الشاطئ لانتظار تنفيذ عمليات التهجير القسرية ، والتي تمت بمباركة تركيا أيضاً خدمة لمصالحها السياسية والعسكرية والأمنية والديمغرافية .
فماذا يمكن للإنسان أن يحمل معه ؟ سلاحه وابنه وماله . كان منظر هؤلاء وهم يهجرون إلى الأبد قراهم التي أحرقها الروس يدعو إلى الحزن العميق ، وقد مات الكثير منهم بسبب الجوع والبرد والمرض. يصف أحد الضباط الروس منظر هؤلاء : » رأيت أناساً رجالاً ونساء مستلقين على الأرض فراداً وجماعات ، وأحياناً بشكل صف طويل ، بعضهم انكب على وجهه أو على جانبه ، والأكثر كان مستلقياً على ظهره وقد عقدوا أيديهم على صدورهم . مشيت ماراً فوق الجثث ، ورأيت إحدى الجثث وقد غطى وجهها قلبق شركسي ، ووقف أمامها حصان دون سرج ، وقد أخفض رأسه ولاحظت أن الحصان كان هزيلاً جداً ، حيث ظهرت عظام ظهره، وغار بطنه ، وفهمت أنه يقف بصعوبة وقد قرر الموت إلى جانب صاحبه ، وعندما أدرت وجهي جانباً رأيت امرأة عجوزاً وجهها مغطى بمنديل صوفي، ظهر من تحته شعر رمادي طويل ، وصبياً متقوقعاً على نفسه حتى أن ركبتيه قد وصلت إلى ذقنه، وامرأة شابة بثوب ذي صدر مفتوح ظهر منه صدرها الناصع المغطى بالندى، وكانت شفتاها المغلقتان بقوة قد ارتختا قليلاً عند الجوانب فبدت وكأنها في شبه ابتسامة ، ويدها ملقاة إلى جانبها ، وبين أصابعها قميص طفل صغير، فتشت عنه فلم أجده ، كم كانت هذه المرأة الشابة جميلة ! رموش طويلة، فم صغير ، أنف أقنى كأنه محفور من العاج ، شعر كستنائي، كانت رائعة الجمال وهي جثة هامدة ، فكيف لو بقيت مليئة بالحياة . وانتبهت إلى ملابسها ، ثوب زهري اللون بأزرار معدنية، وقميص ذو ياقة عالية ، وحذاء أحمر لطيف في قدميها الصغيرتين ، هل كانت دائماً ترتدي هكذا، أم أنها لبست أجمل ما عندها لتقف أنيقة أمام الله !! « .
بعد أن تجمع الناجون من أهوال الحرب عند شواطئ البحر الأسود ، بدأت السفن التركية عمليات الترحيل الجماعية التي لم تعرف البشرية مثيلها من قبل . حوالي 1.5 مليون قوقازي هجر إلى تركيا (300) ألف إنسان ماتوا غرقاً في البحر .
يقول أحد الضباط البولونيين في كتابه ( السنة الأخيرة لحروب الشركس من أجل الاستقلال) » لقد كان الأتراك في منتهى الطمع والجشع إلى الحد الذي قاموا فيه بحشر أكثر من ثلاثمائة أو أربعمائة شخص على سطح المركب الذي لا يستوعب في الأحوال العادية إلا لستين شخصاً،وكل ما قام الشراكسة بحمله من الزاد لم يكن يتعدى حفنات من القمح ، وبراميل صغيرة من الماء .
وعندما كان الطقس يتحسن، كانت تنتظر الشركس مصائب جديدة ، إذ أن سكون الرياح كان يمنع الإبحار (هذا معناه طول مدة الرحلة) وعندها كانوا يستسلمون لموت بطيء ومريع من الجوع والعطش، وهناك حوادث مرعبة حـول غرق واحتراق عدد كبير من السفن مع ركابهـا، وموت نصف المهاجرين على متن عدد آخر من السفن ، فرموهم في البحر، قبل الدخول إلى ميناء طرابزون التركي« ويضيف :
» إن الذين وصلوا إلى هنا في أوائل الشتاء كان عددهم يقارب 12000 مهاجر ماتوا جميعهم تقريباً بسبب الجوع والمرض وعدم توفر ظروف المعيشة والحياة، وكانت المؤن التي توزع من قبل الجنود الأتراك عبارة عن رغيف واحد لكل شخص. ولكن أغلب المهاجرين لا يحصلون على شيء، لأن المؤن كانت قليلة، وكان عليهم انتظار دفعات أخرى من الخبز وهذا طبعاً في يوم آخر « .
» كان هناك عدد كبير من الموتى بحيث بلغت الجنازات عدداً غير محتمل ، وصوت نواح النساء كان يرتد صداه المرعب بعد أن يرتطم بالجبال المحيطة . وبعد هذا رقص الأطفال وغنوا مكملين تلك اللوحة الحزينة المبكية . ورغم تلك المأساة بقي إيمانهم بالله قوياً ، فعندما يـدعو المؤذن المؤمنين إلى الصلاة يقوم الرجال المتوضئون بالتجمع حول أئمتهم كل مع قبيلته، فيخلعون أحذيتهم ويمدون معاطفهم على الأرض ، ثم يصطفون متجهين إلى القبلة ووجوههم ولحاهم الطويلة ولباسهم ، كل ذلك كان منسجماً مع الوضع القاسي الذي كانوا فيه، وأستطيع القول بأن منظر هؤلاء الرجال بأيديهم النحيلة المرفوعة إلى السماء قد أدهشني ، وأشعة الغروب الحمراء صبغت المنظر بشكل أضفى عليه مظهراً شديـد القسوة والتأثير . تلا الإمام آيات القرآن بصوت رخيم ، فرد الجميع خلفه ثم سجدوا ووجوههم إلى الأسفل ، وكانت سيوفهم (قاماتهم) ومسدساتهم تصدر صوتاً خاصاً يذكرنا بالحرب « .

يصف أحد الشعراء جموع المهجّرين قائلاً :

ألقوا بهم على شاطئ البحر ، وتركوا لمصيرهم الفاجع .
لقد هلكوا من الجوع والبرد .
كانوا على طول الشاطئ أحياء وأمواتاً .
ملقى بهم عراة .
الغربان الغربان تنعق فوق رؤوسهم .

وفي الجانب الآخـر للشاطئ بدأ الضباط والجنود الروس يغنون بمرح، ويرفعون أنخاب النصر العظيم، بانتهاء الحرب الروسية القوقازية (المجيدة)!!

0 التعليقات: