الرئيس الروسي القادم.. تعددت الوجوه والنهج واحد
Sent: 2/4/2008
جاء إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ترشيح ديمتري ميدفيديف لرئاسة روسيا تكريسا لتقليد روسي تاريخي عريق, فقد كان القياصرة يوصون بالعرش في العادة لأبنائهم، وبعد ثورة العام 1917 ووصول الشيوعيين إلى الحكم انحصرت السلطة واقعيا بيد الأمين العام للحزب الشيوعي.
في تلك الفترة كان يتم تعيين الأمين العام الجديد في جلسة مغلقة مقتصرة على أعضاء المكتب السياسي, ومع انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوء الدولة الروسية الحديثة انتخب بوريس يلتسين أول رئيس لها.
وتقمص يلتسين دور القيصر والمكتب السياسي ورشح فلاديمير بوتين لوراثته. وكان ليلتسين ما أراد ومنح الشعب الروسي بوتين ثقته رئيسا لدورتين متتابعتين. وها هو بوتين الآن "يلبس قبعته ويلحق بربعه"، على حد قول المثل الشعبي المتداول في بلدان الشرق الأوسط ويعلن عن ترشيح خليفة له.
وهكذا كانت إرادة الشعب بالاختيار الحر للشخصية الأولى في الدولة مصادرة، وما على الجماهير إلا المبايعة والولاء والطاعة.
توقيت الإعلانوضع بوتين المراقبين في حيرة من أمرهم قبل أن يحسم رأيه ويعلن عن مرشحه المفضل.
التكتم على الاسم حتى اللحظة الأخيرة رده البعض إلى السرية التي يشتهر بها رجال جهاز المخابرات الروسية، وإلى حسم صراع القوى المتنافسة على المنصب داخل جدران الكرملين.
"اختار بوتين ترشيح ديمتري ميدفيديف للرئاسة بعد أن حسم الصراع على المنصب بين أجنحة الحكم المتصارعة داخل جدران الكرملين لصالح الجناح الليبرالي المؤيد لتكامل روسيا مع أوروبا والصين"بعض المراقبين كانوا قد توقعوا إقدام بوتين على تسمية ميدفيديف لمنصب الرئيس. لكن ترقية سيرغي إيفانوف وزير الدفاع السابق لمنصب نائب لرئيس الوزراء دفعتهم لتغيير رأيهم.
فقد اعتبروا أن سياسة القوة التي ينتهجها بوتين تجاه الغرب بحاجة لرجل قوي ﺫي خلفية عسكرية، وإيفانوف الأفضل لتلك المهمة. وعندما أعلن عن تعيين فيكتور زوبكوف رئيسا جديدا للوزراء ظن البعض أن تلك مسرحية يهدف بوتين من خلالها للبقاء في السلطة بصورة أو بأخرى عبر إيجاد مبرر دستوري يسمح له بالاحتفاظ بذلك.
وجاء تصريح بوتين بترشيح ديمتري ميدفيديف نائب رئيس الوزراء مرشحا قادما للرئاسة الروسية ليحسم الخلاف الذي بدأ يطفو على الساحة الروسية حول مرشحه المفضل.
اختار بوتين لتصريحه وقتا مناسبا، فقد جاء هذا التصريح بعد أن أعلن رسميا عن فوز حزب روسيا الموحدة –حزب الرئيس- بغالبية مقاعد مجلس النواب. كما جاء في وقت حسم بوتين فيه الصراع على المنصب بين أجنحة الحكم المتصارعة داخل جدران الكرملين لصالح الجناح الليبرالي المؤيد لتكامل روسيا مع أوروبا والصين.
صنيعة بوتينيفتقد ميدفيديف الكاريزما التي يمتاز بها الرئيس بوتين وتمتع بها سلفه الرئيس يلتسين. ولم ينطلق ميدفيديف من قاعدة سياسية حزبية، بل كان الفضل الأكبر في تكوينه الإداري والحكومي لبوتين شخصيا.
فقد عمل كلاهما تحت إدارة أناتولي سابتشاك في بلدية مدينة سانت بطرسبرغ حيث عينه بوتين مستشاره القانوني. وعند انتقاله إلى موسكو أحضره بوتين معه وعينه نائبا أولا لمدير مكتبه.
ثم تولى ميدفيديف إدارة حملة بوتين الانتخابية، وبعد فوز بوتين بمنصب الرئيس عينه رئيسا لمجلس إدارة شركة غازبروم العملاقة مكافأة له. وتوالت ترقياته بمراسيم من بوتين، فتم تعيينه نائبا أول لرئيس الوزراء ثم مشرفا على برنامج "المشروع الوطني".
وهكذا يرى بوتين أن استثماره السياسي في ميدفيديف يجب ألا يذهب سدى، فميدفيديف الرئيس سيكون امتدادا طبيعيا له.
تأشيرة المرور محليا ودولياكان لتكليف ميدفيديف بالإشراف على "المشروع الوطني" أكبر الأثر في تعبيد طريق الفوز المضمون له بمنصب الرئيس، فقد منح ميدفيديف ميزانية زادت على 10 مليارات يورو سنويا لتنفيذ المشروع.
وكان المبلغ يضاعف بنسبة ضعفين إلى ثلاثة من السلطات المحلية. كما منح حرية التصرف بالميزانيات دون الرجوع إلى السلطات المركزية، ما أكسبه ديناميكية أسرع في العمل وتخطيا للحواجز البيروقراطية.
وأفاد ميدفيديف من الزيارات الميدانية التي كان يقوم بها لمناطق روسيا الشاسعة، فتعرف عن قرب على حكام الأقاليم ونسج علاقات جيدة معهم، وهذه العلاقة ستضيف إلى رصيده الكثير كونهم "مفاتيح انتخابية" هامة.
كما جاء تعيينه مشرفا على لجنة تطوير البث التلفزيوني ليجعله محور الأخبار المرئية. وتمكن ميدفيديف خلال فترة ترأسه لمجلس إدارة شركة غازبروم من رفع قيمتها من 8 إلى 250 مليار دولار. واستطاع في ظل أزمة الطاقة العالمية وازدياد الطلب على الوقود رفع إيرادات الخزينة الروسية ليبلغ 150 مليار دولار في العام 2006.
"النجاح المتواصل في ظل ظروف مساعدة اعتبرها الكثير تأشيرة دخول لقلوب وعقول الناخبين الروس سيشكل دون أدنى شك حظوظا كبيرة لميدفيديف للفوز بالانتخابات الرئاسية"النجاح المتواصل في ظل ظروف مساعدة اعتبرها الكثير تأشيرة دخول لقلوب وعقول الناخبين الروس سيشكل بلا أدنى شك حظوظا كبيرة لمدفيديف للفوز بالانتخابات الرئاسية.
ويبدوأن ميدفيديف كان يهيئ نفسه لهذا المنصب واستعد لذلك من خلال الإعلان عن الذات والترويج للنفس رئيس روسيا القادم.
استهل ميدفيديف مسيرة "الدعاية للذات" الدولية عبر بوابة مؤتمر دافوس السياسي-الاقتصادي الشهير الذي يعقد سنويا في سويسرا.
فقد حضر ميدفيديف لقاء دافوس للعام 2007 ضمن الوفد الروسي، وتحدث بلغة إنجليزية يجيدها أمام المشاركين، بدا المشاركون كأنهم "لجنة قبول المرشحين الجدد للرئاسة الروسية".
وأعلن ميدفيديف أمامهم عن الخطوط العريضة لسياسته الداخلية التي ينوي تطبيقها في حال تم انتخابه، وركز في كلمته على التنوع الاقتصادي الروسي وتطوير البنى التحتية والتنمية البشرية وضرورة الإسراع في سن قوانين لحماية الاستثمارات الأجنبية. كما تحدث عن دعمه للديمقراطية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق وحرية الإعلام.
وقع كلام مدفيديف على أسماع الحضور نغمات موسيقية طربوا لسماعها، واستمعوا إليه استماع أستاﺫ لتلميذ ينوي تقويمه، ومن ثم استماع النقاد وعلماء النفس الذين يحاولون رصد كل كلمة يتفوه بها لتحديد نقاط ضعفه وقوته للتنبؤ بسياساته القادمة.
ينظر إلى مدفيديف خطأ على أنه ليبرالي الاتجاه مؤيد لاقتصاد السوق، وبالتالي من المتوقع حصوله على تأييد الدول الغربية، فقد سارعت ميركل مستشارة ألمانيا وصرحت بأنه بالإمكان العمل مع ميدفيديف.
أما كوندوليزا رايس فقد وصفته بأنه على درجة عالية من الثقافة ومن الجيل الآخر الذي يسهل التعامل معه وأنه الخيار الأفضل.
فرص الفوزيبدو أن فرص فوز ديمتري ميدفيديف بمنصب رئيس روسيا الفدرالية محسومة، إﺫ يتمتع ميدفيديف بشعبية كبيرة لا يفوقه فيها إلا بوتين نفسه.
ويتمتع ميدفيديف بتأييد وسائل الإعلام الحكومية والتابعة للأحزاب التي دعمت ترشيحه وتلك التابعة لشركة غازبروم -ميديا التي تسيطر على إمبراطورية إعلامية ضخمة، هذا بالإضافة إلى وسائل الإعلام التي يسيطر عليها اليهود، وما أكثرها، كون والدته يهودية الديانة وأيضا زوجته.
وجاء إعلان الحكومة الروسية بزيادة رواتب موظفي الدولة بنسبة 14% وزيادة رواتب أفراد القوات المسلحة بنسبة 18% وبأثر رجعي اعتبارا من فبراير/ شباط 2007 بمثابة رشوة انتخابية للموظفين الحكوميين.
أما زيادة رواتب أفراد القوات المسلحة بنسبة أكبر فيمكن اعتبارها أيضا استرضاء لهم بعد حرمان سيرغي إيفانوف المدعوم من قبلهم من الترشيح لمنصب الرئيس. معروف أن أفراد القوات المسلحة الروسية يتمتعون بحق الانتخاب.
أما عن عوامل الفوز الموضوعية فتتركز بضعف المرشحين المنافسين، فغينادي زيوغانوف فشل في الفوز بانتخابات الرئاسة حين خاضها ضد يلتسين وبوتين، ولن يكون حظه هذه المرة أفضل من السابق، وكذا الحال مع فلاديمير جيرونيفسكي المرشح الدائم. أما المرشحون الآخرون فهم من الضعف لدرجة أن أحدا لا يضعهم في حساباته.
نسخة كربونية عن بوتينيطرح المهتمون بالشأن الروسي تساؤلات عديدة حول النهج المتوقع أن يسير عليه الرئيس القادم، فميدفيديف إداري أكثر منه سياسيا، وبشهادة من يعرفه شخصية ضعيفة، ليس أكثر من دمية بيد صانعه وولي نعمته بوتين.
يتردد كثيرا قبل اتخاﺫ أي قرار وليس لديه مشروعه السياسي والاقتصادي والإستراتيجي الخاص، وإنما يتعهد بالحفاظ على نهج رئيسه وتطبيق مشروعه المعروف بـ"خطة بوتين".
"العلاقة بين ميدفيديف الرئيس القادم وبوتين رئيس الوزراء القادم أيضا كالعلاقة التي كانت تربط بين الملك الفرنسي لودويك ووزيره الأول الكاردينال أرمند روشيللي, فقد كان روشيللي عمليا هو الحاكم الفعلي لفرنسا، فيما لم يكن الملك أكثر من واجهة"يقول ميخائيل بيرك الباحث في المجلس الكندي الدولي "إن ميدفيديف يعرف ما يجب عليه أن يفعله، وفي حال انتخابه سيمضي على الطريق نفسه".
فبوتين يريد لنهجه أن يتواصل وخير وريث لهذا النهج هو ميدفيديف. تأثير بوتين القوي على ميدفيديف ملموس من قبل جميع المحيطين بهما.
يقول كليسنكوف –كاتب سيرة حياة بوتين- "إن بوتين يسيطر على ميدفيديف ويوجهه". وﺫهب البعض إلى وصف ميدفيديف بأنه الابن بالتبني لبوتين.
ووصف مراقبون آخرون العلاقة بين ميدفيديف- الرئيس القادم- وبوتين –رئيس الوزراء القادم- كالعلاقة التي كانت تربط بين الملك الفرنسي لودويك ووزيره الأول الكاردينال أرمند روشيللي، فقد كان روشيللي عمليا هو الحاكم الفعلي لفرنسا، فيما لم يكن الملك أكثر من واجهة.
ويبدو أن الأمر لا يتعلق ببوتين وقدرته على التأثير المطلق على ميدفيديف فحسب، فهناك القابلية للتأثر وتقمص شخصية بوتين لدى ميدفيديف نفسه، فالأخير يسعى دائما لتقليد بوتين في حركاته وسكناته.
ويتابع المهتمون بالأمر كيف أن ميدفيديف يقلد بوتين حتى في نبرات صوته. والذين حضروا المؤتمر الأخير لحزب روسيا الموحدة شاهدوا بأم عينهم كيف كان ميدفيديف يقلد بوتين في مشيته حتى ظن الحضور أنهم أمام عرض عسكري يقوم به شخصان.
لكن هناك أصواتا تعارض وجهة النظر هذه، وتستند هذه الأصوات على سيرة بوتين نفسه، فقد جاء بوتين للرئاسة من غير تجربة وأثبت جدارة في الحكم.
وهذا ما يتوقع من ميدفيديف، "ميدفيديف طفل بوتين المدلل، والأطفال يكبرون، وسينمو ميدفيديف وسيكف عن طلب نصائح بوتين" كما يقول ميخائيل دلياغين الباحث في معهد قضايا العولمة في موسكو.
أشهر قليلة ما زالت تفصلنا عن رؤية هاوي رفع الأثقال ميدفيديف في قصر الكرملين، ورافعو الأثقال يمتازون بالوقوف بصلابة على أرجلهم أثناء ممارستهم رياضتهم.
فهل يتحول الهاوي إلى محترف ويتمكن من رفع روسيا بأزماتها الثقيلة وإعادتها دولة عملاقة على الساحة الدولية من جديد أم ينوء تحتها؟ وقت ﺫاك لن يجد سوى بوتين يمد له يد المساعدة كما كان خلال السنوات الـ17 الأخيرة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق